الحقوق الرقمية فترة حكم الأسد.. ممارسات خارج القانون

أكثر من خمسة أشهر مضت على خروج معاذ العلي، اسم مستعار، من معتقلات نظام الأسد المخلوع، ومازال يتجنب ذكر أي معلومة حتى لو كانت صغيرة في اتصالاته خوفاً من تكرار ما حدث معه حين تعقبته فرقة المهامالتابعة لإدارة المخابرات الجوية من خلال شريحة الاتصال الخاصة به واعتقلته بتهمة يجهلها، ولم يعلم ماهي حتى بعد الإفراج عنه.  

ينظر معاذ وهو خريج كلية الحقوق بدمشق، إلى الجوال في حقيبته وكأنه جاسوس يراقب حركاته وسكناته، يقول: “الأسى لا ينسى، ومن تلدغه أفعى يخاف من جرّ الحبل“.

لم يكن معاذ قد ارتكب أي جرم، ولم يوجه له أثناء التحقيق معه أي سؤال يجعله يخمن تهمته، إنما طُلِب منه بعد أيام من الاعتقال التعريف عن نفسهومعلومات شخصية عامة، كما تم التلميح إليه ببعض الجمل التي تحدث بهامع صديق أثناء اتصال هاتفي، ما جعله يجزم أن اتصالاته كانت مراقبة.

معاذ واحد من سوريين كثر انتهك نظام الأسد حقوقهم الرقمية فوقع كما وقع غيره ضحية ابتزاز الأفرع الأمنية بهدف الحصول على المال، وهذا ما أكده لنا، فالضغوط التي مورست عليه لدفع مبلغ كبير من المال كانت تقترن بذكرأشياء خاصة ضمن محادثاته الإلكترونية.

ماذا تعني الحقوق الرقمية؟

يشير مصطلح الحقوق الرقمية إلى الحقوق والحريات التي يمارسها الأفراد في الفضاء الرقمي، بما في ذلك تأمين الأدوات والوسائل التي تمكنه منالوصول لشبكات الإنترنت والأدوات التي يمارس من خلالها هذا الحق كالأجهزة بأنواعها.

وقد شمل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي صدر عام 1948 العديد منالحقوق الرقمية التي على الدول والسلطات احترامها، منها: حرية الرأي والتعبير دون مضايقة، خصوصية المراسلات، الوصول إلى المعلومات، الأمانالرقمي، وغيرها من الحقوق.

في سوريا تعرضت الحقوق الرقمية فترة حكم الأسد لانتهاكات كبيرة، بدءًامن تتبع البيانات الشخصية ومراقبة حسابات المستخدمين ومعلوماتهم، والتضييق على وصولهم إلى الإنترنت والمعلومات، كان ذلك من خلال تطبيق إجراءات التقييد التقنية وعدم توفير سرعة اتصال مناسبة رغم الأجورالمرتفعة، بالإضافة لحجب مواقع إلكترونية كمواقع الأخبار المستقلة ومنصاتالمعارضة.

كما فرضت الأجهزة الأمنية رقابة شديدة على المحتوى الرقمي والتعبير الحرعلى الإنترنت، بالإضافة لاستخدام تقنيات متطورة لمراقبة الأنشطة علىالإنترنت، مثل برامج التجسس والتنصت على الاتصالات وتعقب النشطاءوالصحفيين.

أيضاً تعرض ناشطون ومدونون للاعتقال بسبب النشاط الرقمي بتهمة نشرمحتوى يمس بأمن الدولة، وجعل المنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي دليلاً لإدانة المعارضين

كما لجأ لتقليل سرعة الإنترنت أو قطعها تماماً في بعض المناطق لتقييدالتواصل والنشر على منصات التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك و xويوتيوب، وخاصة أثناء المظاهرات.

ممارسات لشرعنة الانتهاكات

إما السجن أو دفع مبالغ مالية تفوق قيمتها 30 ألف دولار، مصيران كان لابد لـ (س. م) من مواجهة أحدهما بعد أن تلقى مكالمة هاتفية من صديقه فيألمانيا يطلب منه فيها استلام مبلغ 20 ألف دولار من شاب في دمشق حيث يقطن (س.موبعد الاستلام عليه إبلاغه ليعطي مبلغاً مشابهاً لأحد أقاربالطرف الثالث في ألمانيا.

بالفعل توجه (س.م) للعنوان المحدد، وقبل أن يصل النقطة المتفق عليها طوقته دورية أمنية واقتادته للسجن ووجهوا له تهمة التعامل بغير الليرة السورية والتخابر مع جهات خارجية. علم (س.م) أنه وصديقه في ألمانيا وقعا ضحية عملية نصب مارسها أشخاص يتبعون لجهات أمنية بهدف الابتزاز لدفع المالوبتهم موثقة بصور المحادثات، خاصة أنهم لم يستطيعوا الوصول للطرف الثالث الذي انقطع الاتصال به لحظة الحادثة، وكان ذلك قبل سقوط الأسدبخمسة أشهر.

مؤكد أن الطرف الثالث هو أحد المتعاملين مع الجهة الأمنية، لقد تجسسواعلى مراسلاتنا لجعلها دليلاً ضدنا ولابتزازنا وطلب المال مقابل إطلاقسراحييقول (س.ع) الذي خرج أثناء فتح السجون وكانت عائلته قد باعتبعض ما تملك لتأمين دفعة أولى للمحامي الذي وكلوه بالدفاع عنه.

تدوير القانون

إضافة لممارسات انتهاك الخصوصية لجأ نظام الأسد لتدوير القوانينفأصدر القانون رقم 20 لعام 2022 تحت مسمى قانونالجرائم المعلوماتيةبعقوبات قد تصل لـ15سنة ولغرامات مالية كبيرة. كما عمل ما يسمى بـالجيش السوري الإلكترونيالذي يعتقد أنه يعمل تحت إشراف النظام، على شن هجمات إلكترونية وقرصنة ضد مواقع المعارضة، وعلى ابتزازمعارضين ونشر معلومات مضللة ودعاية مؤيدة للنظام على الإنترنت.

الممارسات والقوانين السابقة فرضها نظام الأسد على السوريين تمثلانتهاكًا صريحًا لحقوق الإنسان، كذلك ماورد في المادة 17 من العهد الدوليالخاص بالحقوق المدنية والسياسية والتي تؤكد على أنهلا يجوز تعريضأي شخص على نحو تعسفي أو غير قانوني لتدخل في خصوصياته أوشؤون أسرته أو بيته أو مراسلاته ولا لأي حملات قانونية تمس شرفه أوسمعتهوأنهمن حق كل شخص أن يحميه هذا القانون من مثل هذاالتدخل أو المساس

في هذه المرحلة تمر سوريا بمرحلة سن قوانين أوتعديلها، ولاحقًا صياغةدستور جديد للبلاد، يطمح سوريون أن تراعي الجهات المعنية مسألة الأمنالرقمي للمواطنين السوريين، وأن تكفل بنوده الحقوق الرقمية بما لا يفسحالمجال لانتهاكات أو للتفلت من القانون في حال المساءلة والشكاوى، ويأملمن التقيناهم ألا تكون هذه القوانين حبرًا على ورق، أو أن تصاغ بعباراتعامة وتحتمل التأويل بما يبرر تجاوز السلطات وقت تشاء لشرعنة ممارساتهاضد المواطنين كما كان يفعل نظام الأسد.

المحامي عبد الناصر حوشان يؤكد لـإدلب بلسأن المراسلات البريديةتعتبر من أهم خصوصيات الإنسان، و قد حرص المشرع السوري علىاحترامها من خلال النص، وعلى حرمة انتهاكها في الدساتير السوريةالمتعاقبة التي نصت على أنسرية المراسلات البريدية والاتصالات السلكيةواللاسلكية وغيرها مكفولة وفق القانونفالمراسلات البريدية والاتصالاتالسلكية وغير السلكية هي إحدى أدوات الوصول للمعلومة والخبر.

أيضا حرص المشرّع السوري على ضمان حرية الصحافة فأقرت الدساتيرالسورية المتعاقبة على احترام هذا الحق، وقد ورد في الدستورتكفل الدولةحرية الصحافة والطباعة والنشر ووسائل الإعلام واستقلاليتها وفقاًللقانون“.

ولكن نظام الأسد الممتد من انقلاب آذار ١٩٦٣ حتى ٨ كانون الأول ٢٠٢٥ كان يضرب هذه الحقوق و هذه الحريات عرض الحائط من خلال حظرترخيص الصحافة المستقلة واعتقال وقتل أصحاب الرأي و حصر الإعلام والصحافة ووسائلها بحزب البعث، الغطاء الحزبي للنظام الاستبداديالطائفي الذي لم يتوان عن ارتكاب جرائم الحرب بحق السوريينيقول حوشان.

لا حقوق رقمية دون إرادة سياسية

يمكن للحكومة الجديدة أن توقف الانتهاكات الرقمية وتؤسس لمرحلة جديدةمن حرية الإنترنت، لكن ذلك مرهون بإرادة سياسية حقيقية، واعتماد تقنيات حديثة تعزز الأمن السيبراني وحقوق المواطنين الرقمية بحسب المهندس أحمد بربور، خبير تقني.

من الناحية التقنية يؤكد بربور لـإدلب بلسأنه يمكن للحكومة الجديدة اتخاذ خطوات جادة لضبط الانتهاكات الرقمية بحق المواطنين، ولكن ذلك يتطلب إرادة سياسية، واستثمارات كبيرة في البنية التحتية، بالإضافة إلى تشريعات واضحة.

يقول: “هناك العديد من النقاط الأساسية التي توضح إمكانية تحقيق ذلك، منها منع التجسس على الرسائل والمكالمات، كما يجب على الحكومة تبني تقنيات التشفير الشامل (EndtoEnd Encryption) في خدماتالاتصالات الرسمية“.

ويشرح بربور ضرورة إلغاء الرقابة المركزية على الإنترنت والحد من استخدام أدوات التنصت مثل Deep Packet Inspection (DPI) التي تستخدمهاالسلطات الحالية. إضافة للسماح باستخدام تطبيقات الاتصال المشفرة دون قيود، مثل Signal وTelegram (بخاصية التشفير الكامل).

ووفقاً لبربور فإنه يترتب على الحكومة تحسين سرعة الإنترنت من خلال الاستثمار في البنية التحتية، مثل تحديث كابلات الألياف الضوئية (FiberOptics) وزيادة سعة الاتصال الدولي. وتحرير سوق الاتصالات وإدخال مشغلين جدد لكسر الاحتكار الحالي وتحفيز المنافسة.

كذلك ضبط عمل مزودي الخدمة لضمان عدم خنق السرعة عمدًا أو فرض أسعار غير منطقية، ويكون ذلك من خلال تخصيص فرق حكومية لمتابعة التجاوزات الأمنية الرقمية من خلال إنشاء وحدة متخصصة للأمن السيبراني داخل وزارة الاتصالات أو هيئة مستقلة لمراقبة وحماية المستخدمين.

ومن الضروري فرض إجراءات صارمة على مزودي الخدمة لضمان عدم تسريب بيانات المستخدمين أو التلاعب بها. ووضع قوانين واضحة تمنع تدخل الأجهزة الأمنية في خصوصية المواطنين بدون أوامر قضائية صارمة.

ولمكافحة الجرائم الإلكترونية يقترح بربور أن يتم تشكيل وحدة مكافحة الجرائم الإلكترونية لمتابعة قضايا الاحتيال، الابتزاز، واختراق البيانات، وتوفير منصة رسمية للمواطنين للإبلاغ عن الجرائم الرقمية مع ضمانالاستجابة السريعة، وتفعيل قوانين تعاقب المتورطين في الهجمات الإلكترونية وتجرّم استغلال البيانات الشخصية.

كخبير تقني يرى بربور لضمان الحقوق الرقمية للسوريين أن يتم إصدارقانون شامل لحماية البيانات يمنع الجهات الحكومية والشركات مناستخدام بيانات المواطنين دون موافقتهم، والشفافية في إدارة الإنترنت بحيث يتم نشر تقارير دورية توضح مدى احترام الدولة لحقوق المستخدمين، وتشجيع استخدام البرمجيات مفتوحة المصدر بدلاً من الأنظمة المحتكرة التي يسهل التجسس عليها.

أيضاً إطلاق شبكة VPN حكومية موثوقة تتيح لمستخدمي الإنترنت تجاوزأي رقابة غير مبررة على المحتوى. والتعاون مع منظمات دولية مثلAccessNowوPrivacy Internationalللاستفادة من الخبرات العالمية فيحماية الخصوصية.

لضمان عدم تكرار ما حصل مع معاذ وغيره ممن انتهكت خصوصياتهم ووقعوا ضحية الابتزاز الإلكتروني دون اكتراث حكومي أو تحمل للمسؤوليات في زمن الأسد، تقع على عاتق السوريين مسؤولية المساهمة بلفت انتباه السلطة الحالية لقوننة الحقوق الرقمية وجعل هذا المطلب من الأولويات التييجب ألا يغفل عنها المعنيون في المرحلة المقبلة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى