العنف الرقمي، الوجه الخفي للإيذاء النفسي في العصر الحديث

في إحدى غرف مركز صحي في ريف حلب الغربي المخصصة كعيادة نفسية ، جلست ريمان (اسم مستعار) في العقد الثالث من عمرها بانتظار جلستها مع الطبيب والأخصائية النفسية، يلفها صمت ثقيل يخفي خلفه مأساة إنسانية، ذبول عينيها الزرقاوين والهالات السوداء حولهما، نحول جسدها وشحوب وجهها ينذر بحالتها، وما تعرضت له من ضغوط العنف الرقمي والابتزاز الذي عاشته لأشهر، والذي دفعها بدوره إلى الانتحار كما أخبرتنا وشقيقتها التي ترافقها.

بحسب ما روت أختها الأصغر منها، والتي كانت ترافقها إلى العيادة، “إن حياتها تحولت إلى كابوس مستمر بعد أن أقدم أحد أقارب زوجها على سرقة صور شخصية لها من هاتفها أثناء الاحتيال عليها وإرسال رابط لها لتقوم بفتحه دون دراية منها عن خطورة الأمر الذي يوقعها به، اختراق هاتفها والوصول لبياناتها الخاصة من خلال  قيامها بالضغط على الرابط جعلها فريسة سهلة المنال ، ليتم سحب صور خاصة بها من جوالها ، ما بدأ بصورة تحول إلى أداة ابتزاز تهدد صحتها النفسية بالخطر بحسب ما أخبرتنا، حيث استخدم الجاني تلك الصورة للضغط عليها وتهديده لها بنشرها، واتهامه بموافقتها بإرسال الصورة له لعلاقة تجمعهما، الانتحار كان الخيار الأخير بعد محاولات عديدة معه لعدم نشر الصورة في مجتمع لا يرحم النساء عند أدنى شبهة، وتحت وطأة تقاليد وأعراف قاسية في المنطقة التي تعيش فيها”.

المأساة لم تقف عند الابتزاز الأول، فالخوف من المجتمع والطلاق المحتم وفقدان طفليها في حال انكشاف أمرها، دفعها للكتمان بداية الأمر، لكنها لم تكن تعلم أن صمتها سيغذي جشع الجاني أكثر، والذي بدوره واصل تهديده، ودفعها إلى الخروج معه تحت الإكراه، حيث استغل هذا اللقاء لتسجيل مقاطع فيديو جديدة بغرض السيطرة الكاملة عليها وابتزازها بشكل أكبر.

“لم أستطع إخبار زوجي أو أهلي كنت خائفة من أن ينتهي الأمر بالطلاق أو بشيء أسوأ”

بهذه الكلمات أخبرتنا عند مقابلتها، لكن هذا الخوف لم يكن كافياً لحمايتها من تصاعد التهديدات، التي دفعتها في نهاية المطاف إلى محاولة الانتحار قبل أن تنقذها شقيقتها وتحضرها إلى العيادة النفسية بحثاً عن مخرج.

هذه القصة ليست حالة فردية، بل تمثل نموذجاً صارخاً للعنف الرقمي وآثاره المدمرة، خصوصاً في المجتمعات التي تحكمها التقاليد الصارمة إذ تسلّط الضوء على بيئات رقمية خصبة للانتهاك الرقمي مع طرح سبل المواجهة لدى الفئات الضعيفة في المجتمع السوري.

لا يمكن تجاهل الأثر المدمر لهذه الظاهرة، إذ ينصح الأخصائي في تدريب الأمن والسلامة الرقمية حسن الحسين عدم النقر على أي روابط تصل من مصادر غير موثوقة والتحقق من الرابط قبل فتحه باستخدام أدوات التحقق من الروابط.

إن العنف الرقمي الذي تعاني منه السوريات هو امتداد لظاهرة العنف الرقمي ضد النساء عالمياً، ومنذ سنوات أصدرت لجنة الأمم المتحدة للنطاق العريض في 24 سبتمبر 2015 قالت فيه أن حوالي 75% من النساء على الانترنت تعرضن لمضايقات وتنمر وتهديدات بالعنف بما يعرف بالعنف الالكتروني.

وتقول منظمة العفو الدولية في تقريرها عن العنف ضد المرأة عبر الانترنت في 2018 أن “العنف الالكتروني يتخذ أشكالاً متعددة منها التهديدات المباشرة أو غير المباشرة باستخدام العنف الجسدي أو الجنسي والإساءة التي تستهدف جانباً أو أكثر من جوانب هوية المرأة من انتهاكات الخصوصية ونبش معلومات خاصة عن شخص ونشرها على الإنترنت لإلحاق الضرر به، وتبادل صور لامرأة دون موافقتها وهو ما يحدث في سوريا.

ومن ناحية انتشار ظاهرة العنف الرقمي فقد أفادت نتائج بحث “العنف الرقمي ضد النساء في سوريا” أن حوالي 60% من السوريات يواجهن عنفاً على منصات التواصل الاجتماعي خاصة الفيسبوك بالإضافة الى الواتس اب أغلب العنف الذي واجهته المستجيبات في الدراسة ارتبط باختراق الحسابات والاحتيال والتشهير  والمطاردات الالكترونية،كما أكدت الدراسة وصول 23 من النساء إلى التفكير  بالانتحار و 89% أصبن باضطرابات نفسية شملت الاكتئاب والانعزالية وفقدان الثقة ولوم الذات.

“صمت النساء يُغذي عدم الأمان الرقمي، الإنترنت يجب أن يكون مساحة للأمان لا ساحة للتشهير والكراهية بهذه الكلمات أكدت حنين السيد أخصائية في الأمن الرقمي حديثها تقول: “إن الصمت أمام هذا النوع من الجرائم لا يعني سوى مزيد من الضحايا، ومزيد من الأرواح لذا علينا أن نعمل لوضع حد لهذه الممارسات، عبر القوانين، ومن خلال طلب المساعدة من شخص موثوق سواء من أفراد العائلة أو خبير، وخلق بيئة اجتماعية تُنصف الضحايا بدلاً من لومهم وتقديم الدعم النفسي والإجتماعي لهن والتوعية القانونية ، إذ تحتاج النساء إلى معرفة حقوقهن في الفضاء الرقمي، وكيف يمكنهن الإبلاغ عن الإساءات أو ملاحقة المسيئين قانونياً.

يقول طبيب رأب الفجوة محمد اليونس “لا يُعتبر العنف الرقمي مجرد تهديد افتراضي، بل يتحول إلى خطر حقيقي يدفع بالضحايا إلى أقسى درجات الإيذاء النفسي وربما الجسدي إضافة للعديد من الآثار النفسية التي تعيشها الضحية من القلق والتوتر الشديد كما يجعلها عرضة للاكتئاب والعزلة إضافة لفقدان الثقة بالنفس وربما الانهيار العاطفي والانكار وفي أعلى درجاته قد يوصل الضحية للانتحار.

“النساء في مثل هذه الحالات يعشن تحت وطأة خوف دائم من الفضيحة”

تقول ربا محمد أخصائية نفسية تتابع بعض حالات النساء والفتيات في أحد المراكز النفسية في دير حسان، تتحدث لنا عن النساء والفتيات اللواتي تعرضن للعنف الرقمي على وجه الخصوص بأنهن في الغالب يخضعن للجاني بدافع الخوف مما يعرضهنّ للاستغلال بشكل أكبر، كما تبدو تصرفاتهن مائلة أكثر للتهور والميل للغضب والتصرف بعدوانية مع من حولهن، هذا الخوف لا يدمر حياة الضحية فقط، بل ينعكس على كل من حولها، بدءاً من أطفالها الذين قد يفقدون والدتهم نفسياً أو جسدياً، وصولاً إلى المجتمع الذي يغض الطرف عن جذور المشكلة ويتعامل مع الضحية متغافلا عن الجاني.

حالة ريمان لم يكن الابتزاز مجرد تهديد، بل تحول إلى أداة لتقييد حياتها وإغراقها في دوامة من القلق والعزلة انتهى بمحاولة الانتحار، نجاتها من محاولتي انتحار، هي بمثابة إنذار للمجتمع بأن العنف الرقمي ليس مجرد إساءة عابرة، بل هو سلاح قاتل يستخدم التكنولوجيا ليدمر حياة الضحايا.

حين يصبح الفضاء الرقمي مسرحًا للكراهية

في عصر تتسارع فيه التكنولوجيا وتتحول وسائل التواصل الاجتماعي إلى جزء لا يتجزأ من حياتنا اليومية، تنشط المجموعات الرقمية كأدوات للتواصل، لكنها تتحوّل في كثير من الأحيان إلى بيئات سامة تُستخدم لتعزيز خطاب الكراهية، خاصة ضد الفئات الأكثر هشاشة في المجتمع، إذ تواجه النساء تحديات عديدة في ظل الأزمات الاجتماعية والسياسية، لتزيد المجموعات المغلقة والمفتوحة على منصات مثل فيسبوك وواتساب من العبء، وتتحول إلى منصات لنشر التشهير أو التنمر والتحريض ضدهن، كما أن المحتوى المسيء ضد النساء السوريات يتنوع بين التشهير العلني وهو تداول صور أو مقاطع فيديو لنساء بهدف الإساءة لسمعتهن أو نشر معلومات شخصية تعرضهن للخطر أو خطاب الكراهية الذي يتضمن تعليقات تحوي ألفاظًا تحقيرية أو دعوات مباشرة للعنف ضد النساء.

في هذا الصدد تخبرنا رانيا المحمد إحدى النساء العاملات في منظمات المجتمع المدني  أنها عندما قررت التعلم على قيادة السيارة لم تكن لديها الإمكانيات والقدرة الكافية لتمنعها من حدوث اصطدام سيارتها بإحدى السيارات في الحي ليقوم أحدهم بتوثيق الصورة ونشر الخبر على مجموعات تشترك فيها معظم العوائل في الحي، وبث منشورات تروج لفكرة أن النساء سبب الأزمات الاجتماعية أو يفتقرن إلى الكفاءة في مجالات العمل أو المشاركة العامة وترسيخ الصور النمطية للمرأة ، ما سبب كمية كبيرة من التشهير والتنمر الذي تعرضت له، سبب لها الكثير من الخلافات العائلية وجعلها عرضة لضغوطات نفسية لازمتها لفترة غير قليلة كما ذكرت لنا.

أفادت السيدة نهى العبد 25 عاماً ( اسم مستعار) عاملة سابقاً في مجال الحماية و العنف القائم على النوع الاجتماعي،تقول في إحدى الأنشطة التي كنت أقوم بتنفيذها وتمثيل دور رفض العنف الذي تتعرض له النساء فوجئت بنشر المقطع على مجموعات تضم الآلاف، مصحوبة بتعليقات مسيئة تحرّض على إيذائي”، هكذا بدأت العبد حديثها، وهي متزوجة ولديها طفلتين

” حين شاهد زوجي المنشورات المرافقة للمقطع  في إحدى هذه المجموعات، تغيرت حياتي بالكامل أصبحت متهمة في عينيه دون ذنب”

وقد أُجبرت على ترك عملها بعد تعرضها لحملة تشهير رقمية بعد نشر المقطع وتداوله على منصات الفيس البوك ومجموعات الواتس أب تقول “انهمرت التعليقات المسيئة بشكل لا يوصف والكثير منها كان ذا طابع جنسي، ما دفعني للانسحاب من الحياة العامة والابتعاد عن المشاركة الاجتماعية واتخاذ قرار التخلي عن الوظيفة الذي كان سندا لي في حياتي لأعيش عزلة لمدة شهور، مترافقة بقرار اعتبره القاصم لظهري وهو طلاقي من زوجي بعد تعرضه لحملة من الانتقادات من قبل أقاربه إذ لا ينكر أحد العادات الاجتماعية وثقافة اللوم التي تُحمّل النساء مسؤولية أي انتقاد يوجَّه لهن.

لا يقتصر الضرر في هذه الحالات على الإساءة اللفظية؛ بل يمتد ليؤثر على الصحة النفسية للضحايا وتعزيز العنف الأسري إذ كثيرًا ما تساهم هذه المجموعات في إذكاء التوتر داخل الأسر، حيث تستخدم هذه المنشورات كوسيلة للضغط أو الإهانة.

حالة العبد ليست الوحيدة لضحايا الكراهية، فهذه المجموعات تحفل بمحتويات متنوعة، تبدأ بمنشورات تسخر من النساء اللواتي يظهرن في الحياة العامة، مروراً بتداول مقاطع فيديو يُزعم أنها “فضائح”، وصولاً إلى تعليقات تجرد الكرامة الإنسانية عن النساء عبر استخدام ألفاظ تحقيرية أو اتهامات أخلاقية إذ تعتبر المجموعات الرقمية بيئة مثالية لنشر الكراهية وتتحول إلى ساحات للهجوم الرقمي على النساء السوريات، بسبب غياب الرقابة وضعف الإشراف على المحتوى وإمكانية نشر محتوى مسيء دون الكشف عن الهوية الحقيقية للمسيئين.

مسؤولية مجتمعية ومؤسساتية:

إن انتهاك الخصوصية الرقمية بما فيها من ابتزاز وتحرش وخطاب كراهية وتجسس وتشهير ضد النساء السوريات في الفضاء الرقمي ليس مجرد مشكلة عابرة، بل هو انعكاس لعقليات تحتاج إلى إعادة بناء،  إذ أن التصدي لهذه الظاهرة يتطلب جهدًا مشتركًا بين الأفراد والحكومات ومنصات التواصل الاجتماعي فمع كل خطوة نحو التوعية والتنظيم، نقترب من بناء فضاء رقمي أكثر أمانًا وإنصافًا للجميع.

من جانبه أفاد الحسين بمجموعة من الاقتراحات للحد من ظاهرة العنف الرقمي كالتوعية المجتمعية من خلال إطلاق حملات توعوية على وسائل التواصل الاجتماعي لتوضيح خطورة خطاب الكراهية وأثره على النساء والمجتمع، وتعزيز التشريعات وصياغة قانون في الدستور الجديد للدولة يجرّم الإساءة الرقمية، مع وضع آليات واضحة للتنفيذ،  بالإضافة للتبليغ عن الإساءة بحيث تمكن النساء من استخدام أدوات التبليغ المتاحة على المنصات، وتقديم الدعم النفسي والقانوني لهن والضغط على المنصات الرقمية بمطالبة شركات مثل فيسبوك وواتساب بتعزيز سياسات مكافحة خطاب الكراهية ومراقبة المجموعات المسيئة وتقديم ورش تدريبية للنساء حول حماية أنفسهن من التشهير والابتزاز الإلكتروني من خلال تدريبات على الأمن الرقمي.

كما أشارت السيد إلى أن العنف الرقمي يشمل كل أشكال الإيذاء التي تُمارَس عبر الإنترنت أو الأجهزة الرقمية قد يبدأ بتعليق ساخر أو رسالة مهينة، لكن آثاره قد تتصاعد إلى التنمر الجماعي، الابتزاز، التشهير، أو حتى التهديدات المباشرة.

لم يعد الإنترنت مجرد وسيلة للتواصل أو الحصول على المعلومات في زمن أصبحت فيه حياتنا متداخلة بشكل كبير مع العالم الرقمي، بل أصبح ساحة جديدة لصراع من نوع آخر ساحة يُمارَس فيها أشكال من العنف، أقل وضوحاً لكنه أشدّ إيذاءً، هذا النوع من العنف لا يحمل بين طياته الكلمات أو الطعنات، لكنه يبقى في أعماق الضحايا كجروح غير مرئية، تستهدف أرواحهم وصحتهم النفسية، تمتد آثارها لسنوات طويلة، إلا أنه بمزيد من الوعي والقوانين الرادعة، والمساندة المجتمعية، يمكننا أن نحول الفضاء الرقمي إلى مساحة أكثر أماناً، خالية من هذا الوجه الخفي للإيذاء النفسي لأن العنف الرقمي ليس مجرد مشكلة تكنولوجية، بل هو معركة إنسانية تستدعي منا الوقوف صفاً واحداً، لأن الصمت في هذا السياق ليس سوى مشاركة غير مباشرة في استمرار الإيذاء.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى