في حُب إدلب، أحنّ لوطن ما يحبني!

هبة شام أوغلو

و أنا أتابع افتتاح الألعاب البارالمبية البارحة، تذكرت تلك اللحظة في المطار، حيث كان يجلس بجانبي شاب يستمع إلى قصيدة، تخترق أذني كلماتها لتلامس أعمق نقاط وجداني.

كان الشاعر يقول:

”أحن للدم، أحن لبيتي المهدم، أحن لوجوه ماكلها الفقر والضيم، مثل الباب المثلّم..، أحن لوطن ما يحبني…“

وقف الشاب ومضى نحو بوابة السفر، بينما بقيت أنا عالقة في تلك الكلمات، تائهة بين رغبة عارمة في معرفة ما يليها وبين حزن دفين على إدلب، تلك التي لم تحبني يوماً كما أحببتها.

وصلت إلى الفندق بعد رحلة طويلة، وحينما بحثت عن القصيدة واكتشفت كلماتها الكاملة، وجدت فيها شيئًا أكبر من مجرد شعر؛ وجدت فيها مرآة تعكس علاقتي المعقدة مع إدلب، المدينة التي كانت دائماً تشبه الحلم المستحيل. أدهم عادل يكمل قصيدته قائلاً:

“أحن لوطن ميحبّني!
أحن لناس أدافع عنها وتسبّني!
طَشرتّني الوجوه الباردة بلا روح
وما عندي ولف بحرورّته يلمّني..
هنانة الگاع للعشاگ
هناك الگاع
لليمشون بجنازة!.
كلش صعبة
بالغربة أذا سألوك
هم بعدة الوطن يمشي أعلى عكازة؟!
وتره العندة وطن مكسور مثل العود
ما مجبور بس عل الدمع يتوازة..
ورغم هذا احنّلكم
رغم هذا
أگول الموت للشبان
يمكن لليحبّة عتاب!
احن لكل قفل بالباب..
أحن لكل فرح چذاب..
أنة عندي وطن
صح قاسي
مثل الموت بس حباب..
من أول ليلة من عفت النخل
صبّحت وجهي تراب..
وهو اليعّشگ بلا عين
بعد ما يدري
هاي الشمس گرّصة خبز للجوعان
لو شمّعة زيارة لشاب بالسرداب…”

منذ أن عرفت هذه القصيدة، بدأت أدرك طبيعة علاقتي بإدلب بشكل أعمق. كانت إدلب بالنسبة لي كالجرح الذي لا يلتئم، كالحب الذي لا يُشبع، كالوطن الذي لا يمنحك سوى الأمل المعلق. كنت دائمًا أحملها في قلبي، رغم علمي بأنها لا تحمل لي في قلبها سوى جفاء وألم.

إدلب لم تكن كغيرها من المدن؛ كانت مدينة تضعك في مواجهة مستمرة مع ذاتك، مع أحلامك، مع خيباتك. كنت أرى فيها تجسيدًا للمفارقات التي تعيشها الروح: حب يغذيه الألم، وحنين يتأجج في قلب كل جرح. لم أكن أستطيع أن أتوقف عن حبها، رغم أنها كانت ترد علي بالصمت والخذلان. كنت أعود إليها، مرة بعد مرة، وكأنني مدفوعة إلى مصيري الحتمي، مصير العاشق الذي لا يجد في حبّه سوى مرارة الفراق.

لم يكن حبي لإدلب حبًا عاديًا، بل كان حبًا يكبر مع كل يوم، يزداد عمقًا مع كل جرح. في كل مرة كنت أرى فيها الفرح في عيون الفاقدين وذوي الإعاقة في إدلب، كانت مشاعري تتداخل بين الفرح والحزن، بين الأمل واليأس. كنت أرى فيهم تجسيدًا لصمود إدلب، للمدينة التي ترفض الانكسار رغم كل شيء. لكن في نفس الوقت، كنت أشعر بالعجز، كأنني أشاهد من بعيد قصة لا أستطيع أن أكون جزءًا منها، كأنني أعيش في ظل حب لا يمكن أن يُدرك.

إدلب كانت دائمًا معي، في أفكاري، في أحلامي، في كل لحظة من حياتي. كانت تسكنني رغم أنها لم تحتضني يومًا. كانت تشبه الحلم الذي يظل يراودك دون أن تتمكن من الإمساك به.

ورغم كل ذلك، لم أستطع أن أكره إدلب. كان حبي لها أكبر من أي خذلان. كان حبي لها حبًا ناضجًا، يتفهم ألمها، يتقبل جفاءها. كنت أعلم أن إدلب لم تكن تستطيع أن تحبني بنفس الطريقة، لكنها كانت جزءًا مني، جزءًا من هويتي، من كياني.

إحدى صديقاتي وصفت حبي لإدلب بأنه ضرب من المازوخية، وأنا أقبل بذلك. ربما كانت محقة في وصفها، لكنني لم أستطع أن أقاوم هذا الحب، لم أستطع أن أترك إدلب وراء ظهري. كنت أشعر وكأن كل حجر يسقط فيها يسقط في روحي، وكل ألم يصيبها يخترق قلبي. كانت إدلب جزءًا من كياني، وكنت مستعدة لتحمل كل ما يجلبه هذا الحب من ألم، لأنه كان و مازال حبًا صادقًا، نابعًا من أعماق روحي.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى