لسنا مذنبات، نحن ضحايا الإدمان
مدمنو المخدرات لا يراجعون المراكز النفسية وإنما ضحاياهم
يتصدر العنف النفسي ضد النساء القريبات من المتعاطين أشكال وأنواع العنف المختلفة، إذ تنتشر مشكلة التعاطي في المجتمع السوري متسببة بأضرار نفسية واجتماعية للنساء تكون على شكل عقابيل تؤثر على حياتهن
مدمنو المخدرات لا يراجعون المراكز النفسية وإنما ضحاياهم:
شرود ذهن، عزلة في العمل والمنزل، وضغوط نفسية وكوابيس ليلية مزعجة ترافق ليلى منذ اكتشفت قبل نحو سنة إدمان زوجها أحمد على المخدرات.
تقول: “بدأ الأمر بشكوك، كنت أكذب نفسي بداية الأمر، ولكنني تيقّنت أنها حقيقة، صُدمت وانهارت أعصابي، وتعالت أصواتنا حتى كاد يفضح أمرنا أمام الجيران، بكيت كثيراً ورجوته مراراً أن يقلع عن تعاطيه دون جدوى”.
ليلى «اسم مستعار» ذات الـ 28 عاماً، وهي ابنة ريف إدلب الجنوبي، لم يكن زواجها من هذا الرجل بقناعة تامة من أهلها، ما تسبب لها بحرج وخوف من لومها في حال أخبرتهم قصة زوجها طالبة منهم التدخّل والمساعدة، الأمر الذي زاد من ضغوطها النفسية وحيرتها في إيجاد حل يبعدها عن دائرة اللوم والعتب.
حرمانها له من مرتبها الشهري زاد تهيجه وقسوته كما وصفت، تقول “عندما يحتاج جسمه المخدرَ ولا يجد مالاً بين يديه لشرائه يتحول إلى وحش مفترس إلى أن يحصل على ما يريد؛ كثيراً ما يضربني أو يبيع قطعاً من أثاث المنزل دون علمي حتى يحصل على المادة أو يقوم بدفع ثمنها”.
سنوات الحب التي عاشها الزوجان أثناء دراستهما الجامعية وفي بداية زواجهما قبل التعاطي لم تشفع للزوجة حين ذكّرته كيف كان وكيف صار حاله، حتى وجود طفلتيهما اللتين لم تكملا الرابعة من عمرهما لم يقنع أحمد بالتراجع وعدم المتابعة في التعاطي، رغم محاولات ليلى التأثير عليه من خلالهما لأنهما كانتا أحب شيء لقلبه.
بمرور الوقت، بدأت ليلى تلاحظ تغيرات غريبة في سلوك أحمد وصار يخرج في أوقات غير معتادة، ويعود إلى المنزل متأخرًا وهو في حالة غريبة، جربت أن تتحدث معه، لكنه كان دائمًا يتجنب الموضوع ويغضب بشدة، وأحياناً أخرى يعترف ويعدها بألا يفعل ذلك مرة أخرى، إلا أنه يعود من جديد محاولاً إخفاء تعاطيه، غير أن سلوكه وحالته الجسدية تفضحانه في كل مرة.
تحت مظلة الإدمان
لم يقف الأمر عند حد الأذى الجسدي، وبدأت المشاكل المالية تتزايد، وصار أحمد يقترض المال من أصدقائه بشكل متكرر. أيقنت الزوجة الشابة أنه وصل حد الإدمان، وأن كل ما تكسبه يذهب لشراء هذه السموم، وأيقنت أكثر أن أسرتها باتت مهددة بخطر الانفصال في حال علم أهلها بحال أحمد، خاصة أن سلوكه صار ملاحظاً بعد تناوله جرعة الكبتاغون مع مجموعة من رفاق السوء.
يصعب على ليلى نسيان سنوات الحب والوفاق التي أمضياها معاً قبل أن يقع فريسة الإدمان، خاصة أنها الوحيدة التي يمكن أن تقف بجانبه في هذا الظرف الصعب، فهو لم يرَ أهله وإخوته منذ سنوات عندما اقتحمت قوات النظام السوري ريف حماة، ولم يعد قادراً على التواصل معهم سوى باتصالات سريعة مقتضبة الأحاديث والمشاعر.
محاولاتها المتكررة لمساعدته على التخلص من إدمانه، والبحث عن مساعدة من الأطباء والمستشارين، باءت جميعها بالفشل لأنه غير مستعد للتوقف عن التعاطي وتحمل مراحل العلاج التي لن تكون سهلة. لذا فإن حالته تزداد سوءاً يوماً بعد يوم، وتتفاقم المشاكل بينهما لتشهد طفلتاهما خلافاتهما المستمرة و”تشعرا بالخوف وعدم الاستقرار”، حسب وصف ليلى.
صحة ليلى هي الأخرى بدأت تتراجع، فخوفها من الوصمة المجتمعية والطلاق الذي سيتسبب بابتعادها عن طفلتيها صار ينعكس على جسدها النحيل، ولكثرة التفكير في الليل وقلة النوم ظهرت هالات سوداء حول عينيها.
تعمل ليلى في إحدى المنظمات الانسانية موظفةً في مجال الصحة المجتمعية لدى مركز للرعاية الصحية الأولية شمال إدلب. مع تفاقم حالتها صارت زميلاتها في العمل ينبهنها من شرودها المتكرر، ولم تعد تتبادل الأحاديث والضحكات مع زميلاتها في الأقسام الأخرى، كل هذا دفع عاملة الدعم النفسي في المركز الذي تعمل فيه إلى التحدث معها وسؤالها إن كانت بخير.
صمتت ليلى قليلاً ممتنعة عن الإجابة، وسرعان ما انفجرت بالبكاء لتقوم عاملة الصحة النفسية باصطحابها لغرفتها والاستماع لها رفقة “طبيب رأب الفجوة”، ليتم بعدها تشخيص حالتها بأعراض مرتفعة الشدة، ووصولها مرحلة التعطل الوظيفي والحاجة إلى تدخل دوائي نتيجة اضطرابات حادة في المزاج.
تقول: “كثيراً ما أشعر أن صبري ينفد ولم أعد قادرة على التحمل فأحاول إخبار عائلتي بما أواجه، ولكني أتراجع خوفا من إجبارهم لي على الطلاق وعدم اصطحاب طفلتيّ معي”.
أدى تفشي المواد المخدرة شمال غربي سوريا في السنوات الأخيرة إلى تفاقم آثاره، ومن ضمنها أثره الخفي على النساء والأسرة، ومحاولة عائلات إنكار الإدمان لأسباب قد تكون خوفاً من المجتمع، أو جهلاً بمخاطر عدم التوجه لمراكز مختصة بحسب المركز السوري لمحاربة المخدرات.
الدعم الاجتماعي لضحايا الإدمان مفقود
على مقاعد الانتظار في مركز كلبيت الصحي بالقرب من مخيم الأمل شمال إدلب، جلست «فاطمة أم حاتم» رفقة أطفالها الخمسة وهي تحتضن أصغرهم بانتظار دورها للدخول لطبيبة الأطفال في المركز إثر ترفع حروري ينال من أجسادهم الغضة.
تذرف دموعها وهي تحدث ابنتها الكبرى (12 عاماً) وتدعو بصوت مرتفع أن يخلصها الله من زوجها ووالد أطفالها، لتجرعه ما وصفته “بالسم الهاري ” (في إشارة إلى المخدرات).
حالتها دفعت إحدى المنتظرات بجوارها لسؤالها عن سبب بكائها ودعواتها، لتخبرها بصوت منخفض مبحوح مشكلتها مع زوجها المدمن، وبعض وجوه العنف اللفظي والجسدي الذي تتعرض له مع أطفالها، فضلاً عن إهمالها وإلقاء العبء الكامل عليها بمسؤولية أطفالهم وتأمين قوت يومهم، وإجبارهم على العمل خارج المنزل ومصادرة ما تكسب من مال لإنفاقه على شراء المواد المخدرة. تبوح أيضاً بأنها كادت تقع في فخ المدخرات ذاته بعد تناولها كمية صغيرة في بداية الأمر.
تعجز فاطمة عن منع زوجها من المضي في هذا الطريق. تقول: “لم يقتصر الأمر على المال، وإنما بدأت أخاف على ابنتي معه في المنزل، أعيش صراعات لا أحد يعلمها ريثما أعود، وعندما أختلق حججاً لعدم الخروج أو عدم قدرتي على العمل ينهال علي ضرباً وشتماً”.
عزلة اجتماعية مزدوجة
تسببت القطيعة بين فاطمة وجيرانها بكثير من المشاعر السلبية لها، صار زوجها يمنعها من زيارتهم “لكثرة الشكوك التي تنخر عقله” كما وصفت، وبالمقابل تمتنع الجارات عن زيارتها أو حتى الحديث معها بعد انفضاح أمره بالإدمان في المخيم رغم محاولاتها إخفاء الأمر عن الجميع، خوفا من التنمر على أطفالها، وبحكم العادات والتقاليد التي تفرض على النساء الصبر على أفعال الزوج مهما كانت.
سلوكيات زوجها المزعجة تارة والفاضحة تارة أخرى جعلتها لقمة سائغة في فم النسوة أمام أبواب خيامهن، فهي تلحظ وشوشاتهن، ونظراتهن الخفيّة، وتسمع أثناء مرورها في طريق المخيم المؤدي للمركز الصحي أطراف أحاديث عما يفعله زوجها بها.
حديثهنّ ذلك يطول ولا ينتهي عند عودتها، ويصلن حد الشماتة واللوم لبقائها معه في بيت واحد، “وكأنهنّ لسن أمهات ولا يعرفن مشاعر الأمومة” تقول فاطمة بصوت مرتجف متقطع.
ترى فاطمة في أطفالها عوضاً عن حرمانها من أهلها الذين فقدتهم في مدينة حلب إثر قصف لقوات النظام على حيهم قبل عشر سنين، وزواج والدتها وسفرها لتركيا مع زوجها.
تفرك يديها وتمسح بملفحها ما تبقى من دموع فوق خديها وتقول: “فوق الموت عصة قبر. مصائب زوجي من جهة والناس ما بترحم من جهة”.
تفتقد فاطمة الدعم الاجتماعي، وتعيش أوضاعاً نفسية صعبة خاصةً أن الحظ لم يحالفها بالحصول على وظيفة ثابتة، لتظل عرضة لاستغلال ضعاف النفوس من الرجال، سواء في المعامل أو في الأراضي الزراعية حيث تعمل من وقت إلى آخر، أو حتى عبر مواقع التواصل الاجتماعي وتطبيقات الدردشة الاجتماعية.
“مسؤولية تربية خمسة أبناء يعجز رجال في وقتنا الحالي في ظل الغلاء المعيشي وظروف الحرب، ووالدهم كفّ عن تحمل مسؤوليتهم ليعيش عالمه وأجواءه الخاصة مع الإدمان” تقول.
في العام 2022 قالت منظمة الصحة العالمية إن 2.7 مليون وفاة تُسجل عالمياً بسبب الكحول، وأظهر تقرير المخدرات العالمي لعام 2024 ارتفاع عدد الأشخاص الذين يتعاطون المخدرات إلى 292 مليون شخص في عام 2022، بزيادة قدرها 20% على مدى 10 سنوات.
وكشف التقرير عن إحصائيات أظهرت أن فرص الحصول على العلاج من الإدمان متاحة للرجال أكثر من النساء.
كما أظهرت البيانات، أن واحداً فقط من كل 11 شخصاً يخضع للعلاج، من مجموع 64 مليون شخص في جميع أنحاء العالم يعانون من مشاكل تعاطي المخدرات.
هم يدمنون وضحاياهم يتأثرون جسدياً ونفسياً
كثر هنّ النساء اللواتي يعشن ضحية الإدمان أو المدمنين، يزيد المجتمع من ضغوطه فيقيدهنّ بعاداته وتقاليده الظالمة لتكون الأثار النفسية وحدها الفاضحة لما تعانيه تلك النسوة.
العزلة والتفكير المستمر والانسحاب من المجتمع علامات بدت واضحة على ربا التي أتمت عامها ال 16. توجهت ربا بشكاية مرضية لوالدتها طالبةً مساعدتها في التوجه للعلاج، لم تتوقع الوالدة الجواب الصادم من الطبيبة عندما عرفت السبب، لقد أصيبت بالإدمان دون قصد أو علم فابن خالتها الذي تزوجها بعد أن أغرى أهلها بالمال نتيجة عمله بالتجارة كان مدمناً وحاول إيقاعها أيضاً.
شكايتها جاءت بعد شهور قليلة من زواجهما، لتكتشف إدمانه على المخدرات ومحاولته وضع مواد مخدرة اعتاد وضعها في المشروبات التي يتناولانها معاً، ما تسبب بظهور علامات عضوية أثرت في صحتها وظهرت على شكل تبول لا إرادي، ما دفع الطبيبة في العيادة النسائية في أحد المشافي القريبة منها لإحالتها لأخصائية نفسية بعد جلسات تم إدخالها في مرحلة علاجية ومن ثم تثقيف نفسي اجتماعي.
لم تستطع ربا تقبل هذه الحالة فقررت إبلاغ الشرطة، ما دفع الزوج إلى طلاقها، تقول: “كلمة مطلقة ليست سهلة على بنت بعمري وخصوصاً بعد شهور من زواجها ولكنها أسهل من أن أتعاطى وأدمن والأهم أنني أتعالج لأتخلص من المشكلة “.
وعند لقائنا مع الأخصائية النفسية التي أشرفت على حالة ربا (رفضت ذكر اسمها لأسباب تتعلق بوظيفتها) أخبرتنا بأنها عندما تتأكد من أن الحالة التي تزور العيادة سببها نفسي تقوم بالعمل على مقياس الشدة والمدة للاضطرابات، سواء كانت إجهاداً أو قلقاً او اكتئاباً، وعلى هذا الأساس يتم وضع خطة علاجية أو ربما خطة تعافي للوصول بالناجية إلى حالة صحية سليمة.
تقول والدة ربا إن الآثار النفسية كانت في البداية صعبة جداً، فقد انعدمت ثقتها بنفسها وبمن حولها وبدأت تميل في الغالب للجلوس بمفردها والابتعاد عن الآخرين، وفي بعض الأوقات تنتابها شكوك بحديث الناس عما جرى معها أو ربما اتهامها بأنها كانت تتناول المواد المخدرة بإرادتها.
سوريا بؤرة للمخدرات
تُعد ظاهرة انتشار المخدرات من المشكلات العالمية التي تؤرق الشعوب والمجتمعات والحكومات والأجهزة الأمنية والصحية في مختلف أرجاء العالم.
ويذكر تقرير صادر عن مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة، أن “القنب لايزال هو المخدر الأكثر استخداماً على نطاق واسع في جميع أنحاء العالم (228 مليون مستخدم)، وجاءت المواد الأفيونية ثاني أنواع المخدرات الأكثر تعاطياً إذ بلغ عدد المستهلكين 60 مليون شخص، وذلك رغم انخفاض إنتاج الأفيون العالمي بنسبة 74% في عام 2023.
ومع ذلك يشير التقرير إلى أن ظهور المواد الأفيونية الاصطناعية الجديدة، أدى إلى تفاقم آثار مشكلة المخدرات العالمية. وقالت المديرة التنفيذية لمكتب الأمم المتحدة المعنيّ بالمخدرات والجريمة، غادة والي، “إن إنتاج المخدرات والاتجار بها وتعاطيها لا يزال يؤدي إلى تفاقم عدم الاستقرار وعدم المساواة”.
وأظهر تقرير المخدرات العالمي لعام 2024 أن عدد الأشخاص الذين يتعاطون المخدرات غير المشروعة ارتفع إلى 292 مليوناً في عام 2022، أي بزيادة قدرها 20 في المائة على مدار عشر سنوات.
وفي الأعوام الأخيرة باتت سوريا أصبحت إحدى البؤر الأساسية لانتشار المخدرات، من شمال البلاد إلى جنوبها مروراً بباديتها وسواحلها، من دون أن يغير شيئاً طبيعة الجهة المسيطرة على هذه المنطقة أو تلك. ولا يقتصر الأمر على الإنتاج والتعاطي، بل تحولت سوريا إلى مَصدر رئيسي لشحنات المخدرات إلى مختلف أنحاء العالم، إلى حد أن ثمانين في المئة من تجارة الكابتاغون مركزها سوريا وفق مسؤولين أمنيين، بحسب وكالة فرانس برس.
من حيث الإحصائيات، من الصعب الحصول على أرقام دقيقة بسبب عدم وجود سلطة مركزية قادرة على القيام بدراسات دقيقة. لكن هناك تقارير تشير إلى زيادة في عدد المستخدمين والمروجين، وكذلك حالات الاعتقال المتعلقة بالمخدرات. بعض التقارير تشير إلى أن الفئات العمرية الشابة هي الأكثر تأثراً، مع انتشار التعاطي بين المراهقين والشباب.
ونشطت بعض المنظمات غير الحكومية في السنوات الأخيرة بمحاولات للتوعية بمخاطر المخدرات وتقديم الدعم للعائلات والأفراد المتأثرين، ولكن التحديات تبقى كبيرة بسبب الظروف الصعبة التي تمر بها المنطقة بشكل عام.